السبت، 8 نوفمبر 2014

الاستعمار الاسباني في المغرب - (1860-1956)


 الاستعمار الاسباني في المغرب - (1860-1956) الفصل الأول


السبت 5 أيار (مايو) 2012
 بقلم: ميغل مرتين
    
الفصل الأول
التقسيم
في أواسط القرن 19، شرعت اسبانيا في توسعها الاستعماري في افريقيا. فعندما فقدت البرجوازية الاسبانية كل ممتلكاتها الاستعمارية، باستثناء كوبا والفلبين، وجهت أنظارها إلى الحصون الاستعمارية التي كانت بلادنا تملكها منذ عهد الملوك الكاثوليكيين. وفي 1848، بعد 18 سنة من احتلال فرنسا للجزائر، احتلت القوات التي انطلقت من مالقة بقيادة الجنرال سيرانو (SERRANO) الجزر الجعفرية، وأدى ذلك إلى تدهور علاقات اسبانيا مع المغرب، لأن المغرب رد بالضغط على سبتة ومليلية. وحوالي 1851، اقترحت اسبانيا على كل من فرنسا وانجلترا عملا مشتركا ضد سواحل الريف، لكن حرب الشرق حولت اهتمام الامبريالية الانجلو-فرنسية. ومع ذلك، ففي 1859، اتخذ أودونيل (O’DONNEL) مقاومة التعسفات الاسبانية من طرف سكان منطقة أنْجَرَة المجاورة لسبتة كذريعة لغزو المملكة المغربية. وشكلت الأحداث التي طرأت في الليلة من العاشر إلى الحادي عشر من غشت من سنة 1859، مُبررا لإعلان الحرب من طرف الكورطيس (1) في 22 تشرين الأول/أكتوبر، وبموافقة كل الأحزاب السياسية. وقبل أيام من ذلك، كان السفير الانجليزي قد كلف بسرم حدود التحرك الاسباني في رسالة موجهة للحكومة الاسبانية، وذلك بالعبارات التالية:
«يشرفني أن أحيط معاليكم علما بأنني توصلت بتعليمات من كاتب الدولة الأول للملكة، عاهلتي، بأن أطلب من حكومة صاحبة الجلالة الكاثوليكية تصريحا مكتوبا مفاده أنه ما أدت الخلافات الحالية إلى الحرب، وإذا ما كان لقوات صاحبة الجلالة الكاثوليكية أن تحتل طنجة نتيجة أعمال الحرب هذه، فإن احتلال الموقع المذكور سيكون مؤقتا ولن يستمر بعد المصادقة على معاهدة السلم بين المغرب واسبانيا. إن حكومة صاحبة الجلالة مُلزمة بالمطالبة بهذا التصريح لأن احتلال طنجة سيكون إذا ما تم، مناقضا لأمن جبل طارق، القلعة البريطانية».
وبالرغم من تحذير الامبريالية الانجليزية هذا، قرر أودونيل السير قدما إلى الأمام وعلى بينة من أنه لن يُحقق الغايات التي كان يتوخاها. واجتاحت أركان البلاد من أقصاها إلى أقصاها موجة من الدعاية السياسية الشوفينية. وقد قورنت وقتها الملكة إيزابيل الثانية (ISABEL II) بإيزابيل المسماة الكاثوليكية، وقيل إنها ستحقق في افريقيا إرادة الملكة العظيمة إيزابيل الأولى. ودخلت الملكة نفسها في اللعبة حين أهدت جواهرها لفائدة المشروع مذكرة أن إيزابيل الأولى كانت قد أهدت، هي الأخرى، جواهرها من أجل سفر كولمبوس (COLON). بل نطقت بقولتها «التاريخية»: «لتبع جواهري إن كان ذلك ضروريا لنجاح مشروع بهذا القدر من القداسة. لتنفق ثروتي، وبدون أي حرج سأنقص من ترفي. وإن وشاحا وضيعا سيلمع في عنقي أحسن من عقود الماس إن كانت هذه العقود قادرة على الدفاع عن شرف اسبانيا».
وكانت الحكومة تصرح بأن وازعها ليس رغبة مسبقة في التوسع الترابي ولا أية روح غزو، وأن الهدف الذي ترمي إليه هو غسل شرف اسبانيا من العار. وأخرجت الصحافة المسألة من نطاقها كلية، وأعطت لهذه المغامرة الاستعمارية طابع حرب صليبية مقدسة. وكانت أناشيد التحميس القومي تقول:
الحرب، الحرب على الافريقي الجَسور
الحرب، الحرب على المغربي الكافر
الذي أهان شرف اسبانيا،
فالحرب، الحرب حتى النصر أو الموت.
وكانت القصائد الاستعمارية تصف المغربي على الشكل التالي:
همجي في منظره
قبيحة وقذرة طلعته
كل شيء فيهم غريب
مرعب ومثير للاشمئزاز معا.
وإن دهش فلا يتردد
يُفزع ولا ينزعج
يُخيّل لنا أن الجندي الاسباني
يصارع شياطين وليس رجالا.
لكن الحقيقة غير ذلك. فبعد احتلال فرنسا للجزائر أصبحت افريقيا اقرب وصارت تبدو، خصوصا لفلاحي الأندلس وشرق اسبانيا، وكأنها جنة. وفي سنة 1859 كان خمسون ألف مهاجر اسباني قد استوطنوا الجزائر. فَلِم لا يتحول المغرب الذي غزاه أودونيل إلى إلْدُورَادُو في متناول أيدي الفلاحين الاسبانيين البؤساء؟ وفي كتابه المتبجح بالنصر والموسوم «يوميات شاهد عيان في حرب افريقيا» حاول بيدرو أنطونيو ألركون (Pedro Antonio de Alarcón) محو هذه التساؤلات من ذهنه حيث يقول: «تحتل فرنسا الجزائر منذ ثلاثين سنة، وتحكم الأرض التي تطأها ولا تحظى بالطاعة إلا حيث تمتشق البنادق وتخدم الأرض وتستغلها وتحافظ هناك على جزء كبير من سكانها المتدفقين حيوية. وتفيدها الجزائر، في الأخير، كمنفذ لوفرة ما لديها من رجال وصناعات وأنشطة معنوية. لكن، هل نحن في نفس الوضع؟ هل لنا فائض من السكان؟ هل نباغ في النشاط؟ هل نحتاج إلى مجالات لتشغيل هذه النشاطات؟ هل تم إنجاز كل شيء في بلادنا؟ أليست سييرا مورينا (Sierra Morena) ولامنشا (La Mancha) ومئات المناطق الأخرى من شبه الجزيرة خالية من سالكان وغير مزروعة؟ أليس في عواصمنا ما ينجز؟ هل لدينا، إلى هذا الحد، فائض من السكك الحديدية والسفن والمعامل وقنوات الري والملاحة والموانئ الصالحة وطرق العربات، بل وحتى السبل الصالحة للمرور؟... لكن، أين سأتوقف؟ مالنا وهذا كله؟ واجبي في هذا الكتاب ليس هو مناقشة الأمور أو إصدار أحكام عليها وإنما تسجيل الانطباعات التي تثيرها في نفسي».
في أوائل 1860، شرع الجيش الاسباني في مسيرته نحو جنوب سبتة، وبموازاة ذلك تابع الأسطول سيره عبر الأبيض المتوسط مضطلعا بدور قاعدة التموين، ولم تقترب القوات الاسبانية من تطوان إلا في الرابع من شباط/فبراير، واستولت عليها بعد يومين من هذا التاريخ. ومن القرارات الأولى التي اتخذها الغزاة، تحويل المسجد الرئيسي إلى معبد كاثوليكي وضعوه تحت حماية سيدتنا قديسة الانتصارات. وبعد شهر ونصف، وإثر انهزام المغاربة من جديد في وادْراس، احتل أودونيل موقع فندق عين الجديدة الهام. وبعدها أسرع المسلمون للمطالبة بالسلم واتفق على الهدنة يوم 25 آذار/مارس. وتضمنت الاتفاقية التي وقع عليها فيما بعد، توسيع مساحة سبتة ومليلية، وضبط حراسة المناطق المتاخمة لسبتة والصخور، كما تخلى المغرب عن إيفني (مع أن مفوضينا ما كانوا يعلمون علمك اليقين أين توجد) والتزم بدفع تعويض مالي قدره عشرون مليون ريال وظلت مدينة تطوان محتلة كضمانة لأداء التعويض. وجاءت الحصيلة المزرية هذه، نتيجة ضغط انجلترا التي لم تكن ترغب حينئذ، في أن يذهب الجيش الاسباني إلى ابعد مما ذهب، وأتت بها الوحدات العسكرية الاسبانية نفسها حيث بينت الكيفية التي لا يجب إتباعها في الحرب. وفي مقال له بجريدة «نيويورك تايمز تربيون»، عبر انجلس عن عدم فهمه لكون احتلال تطوان كان صعب المنال إلى ذلك الحد من طرف جيش يضم 40000 رجل، ويقول انجلس: «أجل، لم تكن هناك طرق جيدة، لكن كيف تدبر الفرنسيون أمرهم في الجزائر والانجليز في الهند؟ وفضلا عن ذلك، فبغال وخيول الجر الاسبانية لم تتعود على الطرق الجيدة في بلدها نفسها حتى ترفض الدَّب على الأرض المغربية». وفي تعليق صحفي آخر كتب انجلس: «لا يمكننا تكوين فكرة حسنة عن هذا الجيش. وإذا ما استمر أودونيل في النهج الذي سار عليه حتى الآن، فسيسقط شرفه بنفسه، وسيرمي شهرة الجيش الاسباني بالعار رغم اللهجة الرنانة لبلاغاته العسكرية. وثمة أمر أكيد فقط: إذا دافع المغاربة عن أنفسهم خلال سنة، فسيكون على الاسبان تعلم الكثير من الفن العسكري قبل إرغام المغرب على عقد الصلح».
إن تدخل انجلترا قد حال دون الانكشاف الفوري لقيمة الجيش الاسباني بوضوح، وبذات الوقت أوقف الأهداف الاستعمارية لمدريد. غير أن التاريخ سيأخذ على عاتقه تبيان صحة هذا الحكم بمستعمرينا، خصوصا عندما وقعت، سنة 1895، إحدى حوادث الحدود العديدة في منطقة مليلية. ففي خريف تلك السنة، اصدر الجنرال مرڭاليو (Margallo)، الحاكم العسكري لقلعة مليلية، الأوامر لتنطلق الأشغال لبناء حصن سيدي عرياش، وفي نفس اليوم حطم الريفيون الأشغال المنجزة وكرروا نفس العملية في اليوم الثاني. وكان هدف الجنرال المذكور يستجيب للصلاحيات المعترف بها لاسبانيا في معاهدات مختلفة، آخرها تلك التي اوقفت بموجبها حرب 1860 والتي عارض الشعب المغربي دوما وضعها حيز التنفيذ. ولم يكن بالإمكان تنفيذ الاتفاقيات المفروضة على المغرب بالقوة ولو بعد 23 سنة. وكانت الحرب الجديدة صورة ساخرة لمأساة 1860 المجانية. وفي أواخر السنة، وبفعل وجود عشرين ألف جندي اسباني اضطر الريفيون إلى إلقاء السلاح، ووقع السلطان، مُرغما، اتفاقية مراكش التي التزم بمقتضاها بمعاقبة مقترفي الاعتداءات ضد الاسبان. وفي نفس الوقت، صدت قبائل ايفني بعنف محاولات استطلاع المنطقة. واشرف القرن 19 على نهايته بينما ظل استعمارنا عاجزا عن تنفيذ الاتفاقيات المفروضة على السلطان. وبدأ القرن الجديد بتعادل المغاربة والاسبان، في حين يطرد الكوبيون والفلبينيون الاستعمار الاسباني. وشهد العقد الأخير من القرن 19 تَزَامَُنَ نضالات هذه الشعوب الثلاثة المستعمرة ضد الامبريالية الاسبانية وقد عبر خَوسي مارتي Jose Marti، الزعيم الثوري الكوبي عن تضامنه مع الريفيين في مقال نشر في جريدة الوطن (PATRIA) بتاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبر 1893: «أبدا لن يذعن جنس مضطَهد، أبدا، لن يستسلم شعب احتل الأجنبي الأرض الممزوجة بعظام أبنائه. لقد عاد الريف إلى الحرب ضد اسبانيا. وستعيش اسبانيا في الحرب مع الريف إلى أن تُخلى بلد الريفيين المقدس.
وبقدر ما كان كل قلب شريف اسباني النبض مع بيلايو (PELAYO) في كوفادونكة (Covadonga) بقدر ما هو اليوم مغربي النبض مع الريف ضد الاحتلال غير العادل من طرف اسبانيا. إن إغراق شعب في بحر من الدماء وإذلاله بالرذائل لا يشكل وثيقة شرعية للمِلكية، لا في الريف ولا في كوبا. هناك تدور رحى الحرب، وليكن النصر حليف صاحب الحق. واسبانيا توجد هناك حيث يدور صراع غير عادل. تخسر كل ما تملك بدون شرف، وتسند العمل الخاص وتوظف في الجيش أبناءها الثواني غير النافعين وأوباشها الخبثاء ومجنديها الأشقياء. هل اسبانيا الجديدة هي تلك التي تُغرق اليوم المغرب في الدم وتدَّعي غدا وإن بدون جدوى هذه المرة، إغراق المطامح والثقافة العليا لكوبا في الدم؟ ما دام للاسبانيين ما يعيشون به من الأكلة الجماعية للجيش ومن رخاء المستعمرات لن يكون هناك رد فعل في اسبانيا. فلنكن مغاربة! هكذا، وكأن الحق بجانب اسبانيا، نحن الذين سنموت هذه المرة على أيدي اسبانيا سنكون اسبانيين. لكن، لنكن مغاربة!»
أدى فقدان آخر ما تبقى من إمبراطوريتنا الاستعمارية الكبرى في أمريكا سنة 1898، إلى وضع القضية المغربية في المقام الأول من التحرك الخارجي الاسباني ومن كل تلك الاتجاهات التي شبهها ڭنيِفيِطْ (GANIVET) بدوارة الرياح، ولم يبق سوى الجنوب: التوسع عبر افريقيا. وفضلا عن هذا السبب الداخلي الذي جعل قضية المغرب تتصدر مشاكل الساحة محليا، انضاف الواقع الأوروبي الذي عجل بالأحداث في المغرب ليؤدي إلى وضع حد لنظام الاستقلال وإطلاق العنان لجشع المندفع من أجل تقسيم هذا الشعب. وكما هو منطقي، كانت فرنسا هي صاحبة المصلحة في التعجيل بسير الأحداث وكانت قد احتلت الجزائر وتونس ووصلت من هناك غربا إلى حدود المغرب، وتراءت لها منذئذ الإمبراطورية الشمال-افريقية التي ستصبح بعد مدة واقعا قويا بفضل المجهود الاستعماري المتواصل، ومنذ 1901 أوقفت فرنسا أطماع ايطاليا في اتفاقية تخلت بموجبها فرنسا عن بلاد طرابلس كلية مقابل موقف مماثل لروما بخصوص المغرب. وفي العام التالي، اقترحت فرنسا على اسبانيا اتفاقية تحتفظ بموجبها الأولى لنفسها بالنفوذ على منطقة مراكش، وتخول لاسبانيا السيادة على منطقة فاس وتازة وحوض سبو وشمال البلاد كله. ولم ترد اسبانيا قبول العرض الاستعماري الفرنسي المفيد بالنسبة لها، بسبب تخوفها من الإقدام على التصرف دون علم من انجلترا. وقد أثار توغل انجلترا في مصر اهتمام فرنسا بالسودان وإرسالها بعثة القائد مرشان (MARCHAND) إلى منطقة النيل الأبيض، وقد تحصنت تلك البعثة في فاشودة (FACHODA) غير أن تدخل الجنرال الانجليزي كِتْشينِْر (KITCHENER) بسرعة أدى إلى انسحاب الفرنسيين. وبعد ست سنوات، عقدت فرنسا وانجلترا اتفاقية سرية، تعلن لندن بموجبها أنها لا ترغب في تغيير الوضع السياسي المصري، وتعترف أن الحفاظ على النظام في بلاد المغرب منوط بفرنسا ذات المستعمرات المتاخمة لهذا البلد على امتداد حدود عريضة، وأعلنت باريس من جهتها أنها لا تسعى لتغيير الوضع السياسي المغربي، وأنها لن تضع عراقيل أمام نشاط انجلترا في القاهرة. ونص البند الأخير على أن البلدين، بدافع الشعور بصداقة مخلصة تجاه اسبانيا، يعيران اهتماما خاصا لمصالح هذا البلد الناتجة عن موقعه الجغرافي وعن ممتلكاته على الساحل المغربي في الأبيض المتوسط، وستتواصل الحكومة الفرنسية إلى اتفاقية بشأنها مع الحكومة الاسبانية.
لم تكن الحكومة البريطانية غير مكترثة بمن هي الدولة التي ستحل مقابل جبل طارق، ومن تم كانت تفضل أن تكون اسبانيا باعتبارها دولة بدون وزن ولا قوة إطلاقا. لكن الاتفاقية الفرنسية-الاسبانية المؤرخة بـ 13 تشرين الأول/أكتوبر 1904، تركت فاس وتازة خارج المنطقة الاسبانية وقلصت بذات الوقت منطقة نفوذ اسبانيا في جنوب المغرب، كما نصت الاتفاقية على أن توضع طنجة ومنطقتها تحت نظام خاص، ونص البند الثالث على أن الدولتين ستتدخلان في حالة عجز النظام السياسي المغربي والحكومة الشريفة عن الاستمرار في البقاء، أو في حالة ضعف هذه الحكومة أو وهنها المستمر عن تثبيت الأمن والنظام السياسي.
لكن لم يحسب لألمانيا القيصر حسابها، في حين أنها كانت تريد نصيبها. وللمطالبة بهذا النصيب قدم غليوم الثاني (GUILLERMO II) شخصيا إلى خليج طنجة على متن الباخرة هوهينزلرن (HOHENZOLLERN)، وألقى أمام مبعوثي السلطان الخطاب التالي «نأمل أن المغرب، في ظل سيادة صاحب الجلالة الشريفة، سيكون مفتوحا للتعايش السلمي بين جميع الدول دُون أي احتكار أو إلحاق وعلى قدم المساواة التامة [بين الدول]. إن الهدف من زيارتنا هو أن يعلم الجميع أننا مصممون العزم على بذل كل ما أوتيت أيدينا من أجل صيانة مصالح ألمانيا في المغرب. وبما أننا نعتبر السلطان كامل السيادة والاستقلال، فإننا نريد التفاهم معه للحفاظ على هذه المصالح».
وفي أوروبا سمع الصدى لتوه ولاح شبح الحرب الأوروبية. ولتفادي خطر الحرب استدعى مؤتمر الجزيرة الخضراء. واحتد الجدال بين الامبرياليتين الألمانية والبريطانية من كانون الثاني/يناير إلى نيسان/ابريل 1902، ولم ترض النتيجة أيا من هاتين القوتين. وكان الحل بين الأطروحتين المتعارضتين المتمثلتين في تدويل المغرب أو تقاسم النفوذ بين اسبانيا وفرنسا، وهو تدويل المسائل التي تتعلق بالمصالح الاقتصادية العامة، والاعتراف بوضعية امتياز لفرنسا واسبانيا في المسائل المتبقية.
وبالرغم من أوفاق الجزيرة الخضراء هذه، ظلت اسبانيا وفرنسا عازمين على انتهاز كل الفرص المتأتية للاستمرار في التوسع بالمغرب. ففي 1907 احتل الأسبان العرائش والقصر الكبير و[احتل] الفرنسيون الدار البيضاء. ولما شعرت ألمانيا أن تقسيم المغرب يسير على قدم وساق، قررت الإقدام على تظاهرة قوة على غرار ما فعلته سابقا بطنجة. ففي فاتح يوليوز 1911، رست البارجة الألمانية بنتير (PANTHER) في مياه أڭادير، وفي نفس اليوم سلم السفير الألماني في باريس مذكرة إلى الحكومة الفرنسية يبرر فيها وجود الباخرة الحربية الألمانية في أڭادير بنفس الاعتبارات التي كانت فرنسا قد بررت بها احتلال الدار البيضاء واسبانيا احتلال العرائش. ولكي يحصل الاستعمار الفرنكو-اسباني الذي كان يتأهب لغرس الموسى في بلاد المغرب، على المهادنة من جانب ألمانيا تخلت فرنسا لألمانيا على جزء من الكنغو الفرنسي (275.000 كيلو متر مربع) بموجب اتفاقية 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1911، وذلك مقابل حرية التصرف في الأراضي المغربية. وبعد سنة وخمسة شهور بالتحديد، فرضت فرنسا نظام الحماية على سلطان المغرب مولاي حفيظ. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1912، وقعت اسبانيا اتفاقية جديدة مع فرنسا وأضفتا بموجبها صبغة الشرعية على عملها الاستعماري تحت اسم الحماية. ومقابل أراضي الكونغو التي اضطرت الامبريالية الفرنسية إلى التخلي عنها لألمانيا، خسر الاستعمار الاسباني الضفة اليسرى لنهر ورغة، وقطعة صغيرة محاذية لنهر ملوية، والأراضي الواقعة جنوب خط العرض 35.
ومنذ نصف قرن مضى، زاوج المغرب بين المقاومة المسلحة والدبلوماسية. وليس هدفنا هنا التأريخ للدبلوماسية المغربية هذه خلال مرحلة امتدت خمسين سنة، بيد أننا سنبرز قدر الإمكان، طابع السياسة المغربية والجهود التي بذلت للدفاع عن الاستقلال. إن السمة التي طبع بها المغاربة سياستهم هي عدم إعطاء الأفضلية لأية دولة في المغرب، وتنظيم الدولة في اتجاه عصري. وبفضل ذلك ظل المغرب بعيدا عن العدوان الأجنبي وعن الثورات الداخلية رغم المحاولات التي قامت بها فرنسا واسبانيا لتثبيت إقدامها في المغرب. وباستثناء إثيوبيا التي تعرضت لحرب احتلال في الثلاثينيات، فإن المغرب من البلدان غير الأوروبية النادرة التي دخلت القرن العشرين وهي تتمتع باستقلال تام. إن السياسة السديدة التي نهجها المغرب، دفعت الأجانب المتنافسين إلى صراع جدارة شديد للفوز يرضي الملك وبموافقة على بعض مطامعهم، واضطرت فرنسا، وهي الدولة الأكثر إصرارا على السطو على دولة المغرب وجعله يفقد استقلاله، لبذل مجهودات جبارة لإزاحة العراقيل التي تضعها الدول المنافسة في طريقها. وقد رأينا كيف اتفقت فرنسا، سنة 1902، مع ايطاليا التي تخلت عن كل حقّ في المغرب مقابل تخلي فرنسا عن كل مطلب في طرابلس وليبيا. وبعد ذلك استطاعت فرنسا التوصل إلى اتفاقية 1904 الشهيرة مع انجلترا والتي تطلق بموجبها فرنسا يد بريطانيا في وادي النيل مقابل اعتراف انجلترا بالمغرب كمنطقة نفوذ لفرنسا. وفي الأخير توجت فرنسا دسائسها بتقسيم البلاد مع اسبانيا على أساس أن تستحوذ هذه الأخيرة على شمال المغرب لحماية شواطئها. ولما توفي السلطان مولاي الحسن خلفه مولاي عبد العزيز الذي كان ما يزال صبيا وقتئذ. وتابع الوصي، الوزير باحماد، تلك السياسة لكنه توفي بعد خمس سنوات. وبقي المغرب بين يدي سلطانه الشاب المفتقر إلى إرادة وضع حد لدسائس الانتهازيين الحائمين بالقصر والمتآمرين على الدولة والعاملين لمصلحة الأجانب، لكن رغم كل شيء، ظلت سياسة التوازن الدولي، هي السياسة الخارجية للدولة حتى النهاية.
وكان من الطبيعي أن يتزايد جشع فرنسا بعدما انضمت لصفوفها ثلاث دول طالما نافستها وعارضت مرارا تنفيذ مخططاتها. لكن، هناك دولة رابعة ما انفكت تنتظر نصيبها، وتلك الدولة هي ألمانيا التي حاولت الحكومة المغربية الحصول على مساعدتها. غير أن ألمانيا اتبعت سياسة غامضة لم تكن تهدف من ورائها إلى أكثر من الحصول على جزء من النفوذ الاقتصادي والسياسي في مكان ما، ومن أجل ذلك تخلت في الأخير عن المغرب لصالح فرنسا مقابل جزء من الكونغو. ولم يكتف الشعب المغربي بالأمل في إمكان تقديم العون له من طرف الدول المتنافسة أو المتحالفة، بل بحث عن مخرج يحرره من جراف الاستعماريين ودسائس المتآمرين والخونة. وانطلقت في البلاد حركة وطنية بدأت تحت قيادة ماء العينين وانضمت إلى هذه المجموعة قبائل مختلفة وعدة قواد. وأمَّلت هذه الحركة من مولاي عبد العزيز أن يفعل المستحيل لصد كل غزو أجنبي. ووضع مؤتمر الجزيرة الخضراء حدا لكل المعاهدات السرية المبرمة بين فرنسا والدول الأخرى، واعترف باستقلال وحرية المغرب، لكنه وضع اسبانيا وفرنسا في حالة امتياز عند تكليفهما بالقيام بعدد من الإصلاحات في الشرطة. بهذا القدر انتصرت الدبلوماسية المغربية والحركة الشعبية إلى حد ما، في نضالهما ضد المؤامرات الفرنسية، لأن الدول ومن بينها فرنسا واسبانيا وانجلترا وايطاليا التزمت بصيانة وحدة المغرب وضمان استقلاله. ولئن أعلن الامبرياليون موافقتهم على تلك المعاهدة، فإن الشعب المغربي لم يكن راضيا على مضمونها، لأن المعاهدة رغم أنها قضت على خطر داهم، فإنها قد خولت لاسبانيا وفرنسا امتيازا في البلاد، ولم يرد المغاربة الاعتراف لتلك الدولتين بدور متميز عن الدول الأخرى. ولأن السلطان عبد العزيز وافق على ما حدث عن طريق ممثليه في المؤتمر، واتضح عجزه عن مقاومة التوغل الفرنسي والاسباني، فقد اعتبر الشعب أن أفضل وسيلة للتحرر من الالتزامات القديمة والجديدة هي التمرد وتصدر الوطنيون الثورة معلنين خلع عبد العزيز واعتلاء مولاي عبد الحفيظ العرش، وتم الإعلان عن ذلك في فاس من طرف الشيخ ماء العينين والسيد أحمد المواز وهما من مفكري ذلك العهد. وقد اعتبر هذا الإعلان بمثابة ميثاق وطني ودستوري من الدرجة الأولى، فرض على الملك الجديد الشروط التالية:
1-بذل كل الجهود لاسترجاع المناطق المفصولة عن الحدود المغربية.
2-الاستعداد لطرد الغزاة من الأماكن المحتلة.
3-إلغاء معاهدة الجزيرة الخضراء التي لم يساهم الشعب فيها.
4-العمل على إلغاء امتيازات الأجانب.
-  5عدم استشارة الأجانب في قضايا الأمة.
6-عدم إبرام معاهدات سلمية أو تجارية مع الأجانب بدون استشارة الأمة.
وبهذه الطريقة، حوَّلت هذه النقط الست، الملَكية المطلقة إلى ملكية محدودة ودستورية. ومنذ ذلك الحين، لم تعد للملك سلطة عقد أية اتفاقية إلا بعد استشارة وموافقة الشعب. وإن التمييز بين الاتفاقيات المدنية والاقتصادية، التي كان بإمكان الملك توقيعها بعد استشارة مسبقة، كانت له دلالة بالغة، وهي تجريد الملك من حق إبرام أي اتفاق من شأن طبيعته أن يُمس بشؤون الأمة. وفضلا عن ذلك، يحتوي مضمون ذلك التصريح على روح إعلان حقوق الإنسان الذي يُقر أن السيادة للشعب، وأنها غير قابلة للتفويت. وبذات الوقت، تم الإعلان عن ضرورة نهج سياسة دبلوماسية مفتوحة، تلك السياسة التي ستكون الحكومة العمالية-الفلاحية لـ«لينين» أول من سيمارسها بعد ذلك بعشر سنوات.
وبالتالي، شكل الثاني من أيار/مايو المغربي (2) -16آب/أغسطس 1907- أول مشاركة للشعب المغربي في السياسة، وكانت ترمي إلى تحقيق هدفين أساسين:
1)وضع حد للمؤامرات الأجنبية والمحافظة على الاستقلال التام.
2)تحقيق إصلاح يقود الأمة إلى نظام دستوري راسخ. تلك هي الأهداف التي شكلت المحور الذي دارت حوله كل الحركات الاستقلالية إلى يومنا هذا. ولم يمض كثير من الزمن بعد هذه الثورة حتى حرر الوطنيون مشروع دستور تم نشره في جريدتهم «لسان المغرب» التي كانت تصدر بطنجة. وتقول مقدمة المشروع الموجه للسلطان: «بما أن الوقت قد دعا إلى الإصلاح، والشبيبة العصرية قد هللت قلوبها وانشرحت صدورها له، وجلالة سلطانها الجديد (عبد الحفيظ) يعرف لزومه، فنحن لا نألوا جهدا في المناداة بطلبه على صفحات الجرائد من جلالته، وهو يعلم أننا ما قلدناه بيعتنا واخترناه لإمامتنا، وخطبنا وده رغبة منا طوعا من غير أن يجلب علينا بخيل ولا رجال، إلا أملا في أن ينقدنا من وهدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا، وأن يبرهن للكل على أهليته ومقدرته على ترقية شعبه وعلى رغبته في الإصلاح وجدارته بإدارة ما قلدته أمته.
والذي نرجوه منه قبل كل شيء، هو فتح المدارس ونشر المعارف، وأن يكون التعليم الابتدائي إجباريا وأن يولي ذوي الكفاءة والاستحقاق والأهلية ويقرب إليه ذوي العقول الراجحة والأفكار الحرة الراقية، ويحترس من الوشاة والجواسيس الذين يشوهون له رعاياه، ويحولون بينهم وبينه. وفي بلاطه الشريف من هذه الميكروبات القتالة جيش كبير، فإن لم يحترس منها ويقاومها نقلت إليه جراثيم وبيئة معدة. وبما أن يدا واحدة لا تقدر على إنهاض شعب من وهدة السقوط، وعلى إصلاح إدارة مختلفة كإدارة حكومتنا، فيجب أن تكون الأيدي المتصرفة والعقول المفكرة والأفكار المدبرة كثيرة متكاثفة على العمل. وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته من أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب، ومن إعطائه حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها اقتداء بدول الدنيا الحاضرة المسلمة والمسيحية».
وكان الدستور يتكون من أربعة أجزاء، يتضمن الأول القانون الأساسي للدولة، والثاني التنظيم الداخلي لمنتدى الشورى (مجلس الشورى)، والثالث قانون الانتخابات العامة، والرابع القانون الجنائي المغربي. وتنقسم الهيأة التي تسمى منتدى الشورى إلى مجلسين: مجلس الأمة ومجلس الشرفاء (الأعيان) ويشكل أعلى سلطة في البلاد، وتُرجَّحُ وجهة نظره على وجهات النظر الأخرى، وكان له حق مراقبة كل الأدوات والمراكز الحكومية.
وبقي كل هذا حبرا على ورق عندما ضغطت الامبريالية الفرنسية على مولاي عبد الحفيظ، وأرغمته على توقيع معاهدة 30 آذار/مارس 1912 التي أقيمت بموجبها الحماية. وقد ورد في البندين الأولين ما يلي:
1) إن جلالة السلطان ودولة الجمهورية الفرنسوية قد اتفقا على تأسيس نظام جديد بالمغرب مشتمل على الإصلاحات الإدارية والعدلية والتعليمية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي ترى الدولة الفرنسوية إدخالها نافعا بالايالة المغربية.
2) جلالة السلطان يساعد من الآن على الاحتلالات العسكرية بالايالة المغربية التي تراها الدولة واجبة لاستتباب السكينة والتأمين على المعاملات التجارية، وذلك بعد تقديم الإعلام للمخزن الشريف. كما يساعد على أن الدولة الفرنسوية تقوم بعمل الحارسة برا وكذلك بحرا بالمياه المغربية.
وما كاد الخبر يشيع في فاس حتى انفجر كالرعد. سادَ الذعر في القبائل وفي القصور. وكان الشعور الاجماعي أنها خيانة. ومما يزيد من خطورتها، هو أن مولاي عبد الحفيظ نفسه كان قد خلع أخاه من العرش متهما إياه، وبحق، بخيانة المغرب. وقد كتب الدكتور فيزجربر، وهو ملاحظ أوروبي عايش تلك الأيام، يقول: «إن تباشير العاصفة لم تكن ظاهرة إلا بالنسبة للأوروبيين القلائل المطلعين على سر الحياة الداخلية للعاصمة. لا وجود لوجه باسم في الأزقة. والأهالي يكادون لا يردون على الذين يتوجهون لهم بالكلام، وأصدقاء الأمس يتظاهرون بعدم معرفتنا. لكن مع ذلك، فلا سلوكا عنيفا يخُون الشعور الذي يقلق الخواطر».
وبعد سبعة عشر يوما من ذلك تمرد الجنود المغاربة وقتلوا ضباطهم الفرنسيين، وامتدت الثورة إلى الشعب الذي تمرد بدوره وهاجم الحي الأوروبي. وخلال 72 ساعة كانت فاس مدينة حرة بين أيدي الوطنيين المغاربة. وفي يوم 20 [نيسان/أبريل] سحق الجنود الفرنسيون التمرد بالمدفعية الثقيلة، وأعلنت حالة الاستثناء وترتب عن ذلك إعدام آلاف الوطنيين، وبعد ذلك بشهر حاصر عشرون ألف مغربي، من القبائل المجاورة للعاصمة، المدينة بقيادة الحجامي، ونجح المارشال ليوطي، الذي عُين مقيما عاما وقائدا عاما لقوات الاحتلال، في رفع الحصار في بداية حزيران/يونيو. وخلال الصيف قدم مولاي حفيظ استقالته كسلطان احتجاجا على الاستعمار الفرنسي. وقد حاول الفرنسيون حمله على التراجع عنها، غير أن تخوفهم من أن يثير الضغائن بتصريح وطني، ما أدى بهم إلى قبولها وتنصيب مولاي يوسف جد الملك الحالي للمغرب. وبعد أشهر قلائل، كان البلد كله –باستثناء المدن الكبرى والموانئ المراقبة بصرامة من طرف الاستعمار الفرنكو-اسباني- في صراع ضار ضد الاحتلال الأجنبي، وكانت الأقاليم المتمردة تشمل ثلاث مناطق بالإضافة إلى جبالة والريف التي كانت ترتكز نضالها ضد الاستعمار الاسباني.
1-الأطلس المتوسط:
لقد دارت به عدة معارك منذ سنة 1911 حتى سنة 1933، وإذا ما اعتبرناها في كليتها يمكننا أن نقسمها إلى أربع مراحل تكتسي أهمية بالغة:
1-1اقتراب الجيش الغازي ومحاولته الوصول إلى الجبال:
أ-معارك بني مطير سنة 1913.
ب-مقاومة تادلة إلى حين احتلالها سنة 1913.
ج-معارك خنيفرة سنة 1914.
د-عمليات تادلة من سنة 1915 إلى سنة 1917.
1-2-الهجوم على كتلة قبائل الأطلس المتوسط:
أ-اختراق أزرو-ميدلت سنة 1917.
ب-معارك زايان وبني مڭيلد في سنوات 1920-1923.
1-3-الهجوم على الضفة الشمالية لوادي العبيد:
أ-مقاومة عربالة في سنة 1926.
ب-الهجوم على وادي العبيد في سنوات 1929 و1930-1931.
1-4الهجوم على الأطلس المتوسط:
أ-مقاومة أيت يحيى في سنوات 1931-1932.
ب-مقاومة أيت إسحاق في سنة 1932
ج-الهجوم على بساط البحيرة في سنة 1932.
د-معارك ملول والأطلس الكبير في سنة 1933.
ه-محاصرة كردوس وبادو في سنة 1933.
ز-معركة الكوسر سنة 1933.
2-الأطلس الكبير بجنوب المغرب:
إن سياسة ليوطي في منطقة القواد الكبار هذه، كانت تتسم بالتسامح وباجتذاب هؤلاء القواد نظرا للنفوذ الذي يحظون به لدى القبائل، لكن الروح الوطنية وضعت حدّا لهذا النفوذ، وأحبطت السياسة الفرنسية. ويعود فضل توحيد قبائل الجنوب إلى الشيخ ماء العينين وابنه الهبة الذي شكل حوله حركة وطنية. وقد حاربا الفرنسيين واستولى الهِبَة على مراكش. وبعد هزيمته لاحقا في معركة سيدي عثمان واصل –هو والقبائل التي انضمت اليه- المقاومة في الساقية الحمراء حتى سنة 1935.
3-تافيلالت وأيت عطا بالجنوب المغربي:
لقد دام الكفاح ضد الفرنسيين في هذه المناطق ثلاثا وعشرين سنة. وفي البداية كان الكفاح بقيادة الشريف السملالي الذي هاجمه جيش مكناس بقيادة الجنرال بويميرو، والساعد الأيمن للجنرال ليوطي، مدعوما من طرف جيش آخر، وقد حاربته هذه الجيوش طيلة سنتين. وخلال هذه المعارك قتل الجنرال الفرنسي واستشهد الزعيم المغربي الذي خلفه بلقاسم النڭادي الذي واصل الكفاح إلى أن استسلم في سنة 1935.
شكلت الروح الوطنية عامل لَحْمٍ لكل هذه الأعمال التي سحقت سياسة القواد الكبار، التي نهجها الاستعماران الفرنسي والاسباني كوسيلة لكسب المؤيدين وتفرقة المقاتلين. وفي كتابه «البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط» يورد الجنرال غليوم (GUILLAUME) –وهو من الذين شاركوا بنشاط في الغزو الفرنسي- الشهادة التالية: «إن الصيغ المحببة لدى المارشال ليوطي (LYAUTEY) [مثل] «إظهار القوة لتلافي استعمالها» و«إن عملا [صالحا] يساوي كتيبة» لا يمكن تطبيقها بالتمام على سكان مصممين على الدفاع عن استقلالهم إلى آخر رمق. إن المفاجأة الكبرى هي أن قبائل وفية للسلطان تمردت ضده عندما أدخل الحماية، وواجهتْنا بمقاومة أقوى، وإصرار أكبر من مقاومة وعناد بعض القبائل التي سبق لها أن تمردت في مناسبات عديدة». ويضيف «إذا كانت مجهودات مديرية الشؤون السياسة محكوما عليها بالفشل، فذلك ناتج عن كون خصومنا ما كانوا يتراجعون أمام قوتنا إلا بعد استنفاذ كل وسائل المقاومة المتوفرة لديهم. وكثيرا ما ترد في ذهني أقوال المارشال بيجو (BUGEAUD) هذه: إنه لمن المحزن والمضحك حقا، ما نسمعه أو نقرؤه لكتابنا وخطبائنا عندما ينصحوننا باستعمال أساليب صالحة كوسائل لاجتذاب خصومنا، وان نجعل العرب يحسون بلطف تقاليدنا ومزايا حضارتنا. هذا جميل وسام بدون شك. ولقد جربته شخصيا أكثر من أي شخص، لكن ما العمل مع شعب يلوذ بالفرار عندما نقترب منه، ولا يترك أمامنا إلا مقاتلين أشداء يردون على كلامنا العاطفي بإطلاق النار؟».
وفي مؤلفه «المشاكل السياسة والاجتماعية في نهاية القرن XIX» كتب المؤرخ دْرِيُولْ (DRIAULT):
«خلال السنوات الأخيرة، تم احتلال كل البلدان المستقلة على وجه الأرض من طرف الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وبسبب ذلك، وقعت لحد الآن عدة نزاعات وبعض التغييرات في مناطق النفوذ، والتي ليست سوى تباشير انفجارات أكثر فظاعة في المستقبل القريب. يجب الإسراع بالاحتلال إذن، وإن الدول التي لم تتزود معرضة لخطر عدم تسلُم نصيبها أبدا، وعدم المشاركة في الاستغلال الهائل للعالم والذي سيشكل احد الأحداث الأساسية في القرن القادم. لهذا السبب سيطرت على أوروبا وأمريكا، خلال الآونة الأخيرة، حمى التوسع الاستعماري المميزة للامبريالية التي تشكل السمة المميزة الأكثر بروزا لأواخر القرن XIX. ومع مثل هذا التقسيم للعالم، ومع هذا القنص المسعور للثروات والأسواق الكبرى في العالم، فإن الأهمية النسبية للإمبراطورية التي شُيدت خلال القرن XIX لا تتناسب مع الموقع الذي تحتله في أوروبا الأمم التي شيدتها. وإن الدول السائدة في أوروبا والتي تتحكم في مصيرها، ليست سائدة في العالم كله بنفس الشكل. وبما أن النفوذ الاستعماري، والأمل في الاستيلاء على ثروات ما زالت مجهولة، سيكون لهما بالتأكيد انعكاس على المكانة النسبية للدول الأوروبية، فإن المسألة الاستعمارية –الامبريالية إن شئتم- التي غيرت الآن الظروف السياسية في أوروبا نفسها، سوف تغير هذه الظروف أكثر فأكثر في المستقبل».
ويضيف لينين، الذي أورد هذه الفقرة في مؤلفه «الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»...
«لقد تضخمت مستعمرات الدول الست الكبرى بشكل هائل بعد 1876، إذ ارتفعت المساحة المستعمرة من 40 إلى 65 مليون كيلو متر مربع. والزيادة تمثل 25 مليون كيلو متر مربع، أي بزيادة واحد ونصف عن مساحة الدول المستعمِرة (16.5 مليون كيلو متر مربع). وفي سنة 1876 لم تكن ثلاث دول تملك أية مستعمرة، أما الدولة الرابعة، وهي فرنسا فلم تكن لها مستعمرات تقريبا. وفي سنة 1914 كان لهذه الدول الأربع مستعمرات تبلغ مساحتها 14.1 مليون كيلو متر مربع أي مساحات أكبر من مساحة أوروبا بنسبة تقارب النصف، ويبلغ عدد سكانها حوالي 100 مليون نسمة. وإن التفاوت على مستوى توسيع المستعمرات كبير جدا، فإذا قارنا مثلا فرنسا وألمانيا واليابان، وهي دول لا تختلف كثيرا من حيث المساحة وعدد السكان، وجدنا أن فرنسا قد حصلت من المستعمرات (من حيث المساحة) نحو ثلاثة أضعاف ما حصلت عليه ألمانيا واليابان مجتمعتين. لكن، من حيث مقادير الرأسمال المالي قد تكون فرنسا أيضا، في بداية المرحلة المذكورة، أغنى بعدة أضعاف من ألمانيا واليابان مجتمعتين».
لم تحصل البرجوازية الاسبانية إلا على بعض الفتات من كل هذه الغنيمة الهائلة، بحيث تسلمت حوالي 300000 كيلو متر مربع، 250000 منها كانت رمالا خالصة و26000 الباقية تمثل الجزء الجبلي والأكثر فقرا من المغرب، من أصل 25 مليون كيلو متر مربع للتوزيع. مما دفع مستعمرينا إلى القول إن نصيب اسبانيا لم يكن سوى «عظم» من «الضلع» المغربي. وهذه الصورة البيانية صادقة بما أن الدور الاسباني كان يقتصر على أن تكون اسبانيا كلب حراسة للامبريالية البريطانية. إن مفتاح سر وجودنا الاستعماري في مرحلة الامبريالية، يقدمه لينين نفسه حين يقول، في المؤلف المذكور، أن أغلبية الدول الصغرى لا تحتفظ بمستعمراتها إلا بفضل وجود احتكاك وتناقض الخ، بين مصالح الدول الكبرى، الأمر الذي يحول دون عقد اتفاقية استعمارية... مع التشديد في حالة اسبانيا، لأن المصلحة الانجليزية في أن تراقب مدريد السواحل الريفية، استندت إلى كون انجلترا ترغب في تلافي استقرار فرنسا على الضفة الأخرى من مضيق جبل طارق. ويعني ذلك قبول [اسبانيا] المشاركة في تجزئة المغرب والقضاء على استقلاله من أجل صيانة أمن مستعمرة بريطانية على التراب الاسباني [جبل طارق]. وباستثناء مناجم الريف، لم يكن في التراب المغربي أي شيء قد يُفيد الرأسمالية الاسبانية. وكان من البديهي أن غزو الريف والبقاء فيه سوف يكون منهكا بالنسبة إلى الاقتصاد الاسباني الهزيل. لقد ألقت لندن وباريس بعظم بدون مخ، وسارع المستعمرون الاسبان إلى جمعه دون أن يتساءلوا عن مردودية عملية من ذلك القبيل. وكاستعمارية، كشفت برجوازيتنا من أنها كارثة. وكان من الممكن أن يُصبح للريف بعض الأهمية السياسية، إذ يمكنه أن يُصبح ارض الميعاد بالنسبة إلى القطاعات الاجتماعية الأكثر انحطاطا على سواحلنا المتوسطية. وبهذا المعنى يمكن القول ان شمال افريقيا لعب منذ القرن XIX، بالنسبة إلى الأندلس وشرق اسبانيا نفس الدور الذي لعبته أمريكا بالنسبة إلى ڭالِيسْيَا. وفد ابرز لينين نفسه، في الكتاب المذكور، هذا الجانب من خلال خطاب الاستعماري سيسيل رُودْس (CECIL RHODES): «»كنت بالأمس في الاستد أند (حي عمالي في لندن) وحضرت اجتماعا للعمال العاطلين. وعندما سمعت في ذلك الاجتماع خطابات متحمسة سمتها الرئيسية كانت هي صرخات: الخبز! الخبز!. والثناء عودتي إلى بيتي كنت أفكر بما سمعت، واقتنعت أكثر من السابق بأهمية الامبريالية... إن الفكرة التي أصبو إليها تمثل حلا للمسألة الاجتماعية، أعني: أنه لكي تنقذ أربعين مليونا متن سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية فتاكة، ينبغي علينا نحن الساسة الاستعماريين أن نستولي على أراضي جديدة لنرسل إليها فائض السكان ولنحصل على أسواق جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها مصانعنا ومناجمنا. فالإمبراطورية، وقد قلت ذلك مرارا، هي مسألة مَعِدَة. فإن كنتم لا ترغبون في قيام حرب أهلية عليكم أن تُصبحوا امبرياليين».
بالإضافة إلى هذا، فإن الجشع المهدوي لملك، واندفاع بعض العسكريين والرغبة في خلق أوضاع حربية لتزيين سجل خدماتهم أو تسلق سلم الترقية، والاجتذاب الذي كانت الذي كانت تمارسه على الأوليغارشيا الاسبانية السياسية الامبريالية لفرنسا، كل هذه العوامل أدت باسبانيا إلى انتهاك استقلال ووحدة الدولة المغربية. وبهذا أصبحنا نشكل جزءا من القوى الاستعمارية بصفة استعماريين أقزام لأن الثلاث مائة ألف كيلو متر مربع التي سرقتها مدريد، لم تكن تمثل شيئا بالمقارنة مع الثلاثة وثلاثين مليون للندن، والسبعة عشر مليون لموسكو القيصرية والأحد عشر مليون لباريس، والثلاثة ملايين لبرلين والنصف مليون لواشنطن ولطوكيو.
لم تُبدِ أية بروليتاريا لبلد استعماري نفس المعارضة الصارمة التي قاومت بها الطبقة العاملة الاسبانية المغامرات الاستعمارية. إن التحريض المعادي للاستعمار الذي قام به العمال سيبقى، تاريخيا، نموذجا ومثالا عمليا للتضامن والأممية البروليتارية. وإلى حدود السنوات الأخيرة من عقد العشرينات، حيث تمكن التحالف بين الاستعماريين الاسباني والفرنسي من سحق الشعب المغربي عسكريا، تشبثت الأحزاب والنقابات العمالية دائما بمعارضة الغزو الاستعماري، والدفاع عن استقلال الدولة المغربية، مُسجلة بذلك صفحات بطولية في تاريخ الحركة العمالية الاسبانية. وبالرغم من أن سنوات الثلاثينات قد فتحت قوس كبت فيما يتعلق بالسياسة المعادية للاستعمار، هذا القوس الذي لم يُغلق بعد، فإن الحصيلة تضع الحركة العمالية الاسبانية في المواقع الأولى داخل الحركة المناهضة للاستعمار. وقبل أن تتم شرْعنة إلغاء السيادة المغربية سنة 1912، كانت كل من اسبانيا وفرنسا تحاولان ضم الأراضي أينما أمكنهما ذلك، وجَسَّ نبض مقاومة المغاربة. وكانت إحدى عمليات النهب هذه، هي التي أدت إلى حرب 1909 والاحتجاج العمالي ضدها. هذا الاحتجاج الذي بلغ الأوج فيما سُمي بعد ذلك بالأسبوع المأساوي لبرشلونة. وفي بداية حزيران/يونيو من ذلك العام، وبما أنه لم يكن من الممكن الوصول إلى اتفاق مع الريفيين ليسمحوا باستغلال خيراتهم المنجمية في إِكْسَانْ، شرع الجيش في حماية الأعمال في المناجم. وأمام استفزاز من هذا القبيل، هاجم المغاربة، في بداية تموز/يوليوز، الجنود الذين اضطروا للجوء إلى مليلية. وبما أن الخمسة ألف وخمس مائة جندي والخمسة وعشرين من القادة والضباط الموجودين هناك لم يكونوا كافيين، فإن الحكومة قد نظمت الإرسال الفوري للواء مختلط من القناصة وتجنيد الاحتياطيين. وتلقى الرأي العام هذه الأنباء باستياء عميق، وما ضاعف هذا الاستياء، استدعاء مجموعات من الرجال كانوا ينتمون للاحتياطي النشيط والذين كانوا يعتبرون أنفسهم متحررين من التزاماتهم العسكرية بعد اندماجهم في الحياة المدينة. وقد فضحت الصحافة والأحزاب العمالية والمعارضة هذه العمليات مُعتبرة أن ليس لها من دافع سوى الدفاع عن المصالح الخاصة للمؤسسات المنجمية، ولعب دور المَرقى للزمرة العسكرية. ووصل جو التحريض المعادي للاستعمار إلى حد أن الجريدة المدريدية «مراسلة اسبانيا»، الملكية الاتجاه، نشرت الافتتاحية التالية: «من المستحيل القتال ضد بلد، واسبانيا لا تريد أن تسمع حتى الحديث عن المغرب. فباستثناء نصف دزينة من السياسيين وبعض سماسرة البورصة المُضاربين وآخرين يصطادون في الماء العكر، لا أحد يرغب في مغامرات أو استفزازات أو احتلالات غير ضرورية ولا في حملات خارج الزمن والمكان». وكتب آخرون أكثر راديكالية، مثل «إلَبَييس»: «هناك خطر نشوب حرب عبثية ولا شعبية وغير عادلة ضد المغرب. لقد وصلنا الحضيض، لكن ليس إلى حد أن تُصبح ألعوبة في يد متآمرين من الدول الأجنبية. إنه لمن العبث والإجرام أن نقحم أنفسنا في الصفن المغربي لخدمة مصالح صناعية ليست حتى لنا في غالبيته، مخاطرين بأن تُغرس في أجسادنا وأرواحنا آلاف الإبر المسمومة».
كل هذا أدى منذ اللحظة الأولى إلى استحالة إبحار الجنود، وأسفر عن أحداث خطيرة في برشلونة في يوم 13 –كتيبتا برشلونة ومريدا (MERIDA)- ويوم 10 –كتائب استيليا (ESTELLA) والفنس XII (ALFONSO XII) ورِؤوس (REUS)- وخلال هذه الأحداث حاولت مجموعة من النساء والأطفال اعتراض عملية الإبحار، وذلك بالتظاهر أو دعوة الجنود إلى إلقاء السلاح ورفض القتال. وحدث نفس الشيء في مدريد حيث أدى احتلال محطات القطار والجلوس فوق السكة إلى استحالة خروج قطارات الجنود من المحطات. وبهذا الانطباع كان الجنود يصلون إلى مليلية ليدخلوا مباشرة إلى المعركة بمعنويات منهارة –حسب الجنرال مولا (MOLA)- من جراء الأحداث التي وقعت في موانئ الإبحار أو خلال نقلهم عبر البلاد.
ومرت الأيام من التاسع إلى السابع عشر من تموز/يوليو، بشكل عادي دون أن يهجم المغاربة. لكنهم هجموا بقوة يومي 18 و20 مما اضطر جيش الاحتلال إلى المزيد من التراجع. وحاولت حكومة مَوْرَا (MAURA)، التي كانت في وضعية حرجة، أن تعطي انطباعا بأن الأمر يتعلق بعمليات بوليسية بسيطة ودون أهمية كبرى ضد بعض قُطاع الطرق. وبالرغم من أن مورا توقع أن على الجيش الاستعماري مواجهة حرب قاسية، فقد سعى إلى إخفاء ذلك لطمأنة رأي عام هائج للغاية. غير أن المعارك المذكورة فضحت مورا الذي لم يكن له بد سوى إرسال المزيد من الاحتياطيين، من بينهم اللواء الأول المختلط للقناصة حامية مدريد. وانفجر الغضب الشعبي الذي وصل يوم 21 إلى حد معارضة رحيل كتائب لاَسْ ناَفاس (LAS NAVAS) وفِيڭِيرَاسْ (FIGUERAS) بالقوة، وذلك بفصل عربات القطار. وفي يومي 23 و27 وقعت من جديد معارك عنيفة. ووصل الانطباع الذي خلفته الأخبار الجديدة إلى حد أن جريدة «الأبيض والأسود» كتبت �لقد رحل لواء آخر إلى مليلية�، فهل سيكون اللواء الأخير؟ إن هذه التساؤلات نطرحها نحن الذين لا نملك مناجم في الريف ولا أسمها فيها بشبه الجزيرة. كما يطرحها أيضا الذين جالوا بعض الشيء عبر اسبانيا، وشاهدوا الكثير من فراسخ الأرض غير مزروعة ويمكن استعمارها. وإلى حين تصميمنا على استعمار دارنا، نعتبر أن كل نبات الصُبار الريفي لا يساوي حياة جندي واحد. ويظهر إطلاق النار على بعض العمال في الريف كذريعة [الهجوم على الريف] لأن الدافع الحقيقي هو الرغبة في التوسع، في الوقت الذي اختار المغرب سلطانا جديدا معاديا للاستعمار. وفي نفس التاريخ، حذَّر بابلو اڭلسياس (PABLO IGLESIAS) زعيم الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني، في تجمع عقد بمسرح لوكس إِدِنْ قائلا: «لن يكون من الصعب أو الغريب أن يفضل أحد الجنود الاحتياطيين طعن وزير أو أية شخصية سياسية سامية بالخنجر بدل الذهاب لتقتيل أناس يدافعون عن وطنهم بنفس الشجاعة التي دافع بها الاسبانيون عن وطنهم سنة 1808. وفي هذه الحالة، غن الحكومة هي عدوة الشعب الاسباني وليس المغاربة. ويجب محاربة الحكومة باستعمال كل الوسائل. وبدل إطلاق النار على الشعب، يجب أن تطلقوها على المسؤولين وسوف يعلن العمال الإضراب العام إذا كان ذلك ضروريا»..
وفي نفس التاريخ، انعقد مؤتمر الفيدرالية الكطلانية للحزب الاشتراكي الذي صادق على الملتمس التالي: «اعتبارا لكون الحرب نتيجة حتمية لنظام الإنتاج الرأسمالي، واعتبارا أيضا للنظام الاسباني في تجنيد الجيش حيث أن العمال هم وحدهم الذين يخوضون الحرب التي يُعلنها البرجوازيون، فإن التجمع يحتج بصرامة:
1-ضد تصرف الحكومة الاسبانية في المغرب.
2-ضد ممارسات بعض سيدات الارستقراطية اللائي يُهِنَّ آلام الجنود الاحتياطيين وزوجاتهم وأبنائهم وذلك بتسليم أوسمة وأطواقا كتفية عوضا عن تمكينهم من وسائل العيش التي حرمهم منها غياب رب الأسرة.
3-ضد إرسال مواطنين مفيدين للإنتاج إلى الحرب، وهؤلاء المواطنون، على العموم، غير مكثرتين بانتصار الصليب على الهلال، في حين يمكن تكوين فرق من الرهبان والكهنة الذين لهم مصلحة مباشرة في انتصار الديانة الكاثوليكية فضلا عن كونهم بدون عائلات ولا منازل ولا ينفعون البلاد في شيء.
4-ضد موقف النواب الجمهوريين الذين لم يستغلوا حصانتهم البرلمانية ليتصدروا احتجاجات الجماهير ضد الحرب.
يلتزم أمام الطبقة بحشد كل قواه إذا ما اضطرت إلى إعلان الإضراب العام الإرغام الحكومة على احترام حقوق المغاربة في الحفاظ على الاستقلال التام لبلادهم».
وتمت الدعوة للإضراب العام في مجموع اسبانيا خلال شهر آب/أغسطس، غير أن شنه قد تقدم في برشلونة منطلقا من القواعد تحت صيحة: «بينما تنظمون انتم مهرجانات سياسية فغن العسكر يجبرون المواطنين على خوض الحرب». وأدى الإضراب إلى الأحداث الدامية لآخر أسبوع في تموز/يوليو، ذلك الأسبوع المأساوي، والتي بلغت أوجها باغتيال المفكر الفوضوي فيرير (FERRER) والحكم بالإعدام على 110 مناضلين والاعتقالات الواسعة للعمال: 5000 في برشلونة و1700 في مطارو (MATARO) و1200 في صباديل (SABADELL) و1000 في طراغونة (TARRAGONA) و300 في خيرونة (GERAONA). وفي نفس الوقت مُني جيش الاحتلال بهزيمة كبرى في وهدة الذئب على سفوح جبل الڭروڭو، ولم تتجاوز هذه الهزيمة إلا الانتصارات البطولية للمغاربة في أنوال وجبل أعرويت سنة 1921. لقد أدى قصور القادة العسكريين إلى سقوط فيلق من القناصة بكامله في كمين نصبه المغاربة. وقتلت، تقريبا، كل العناصر المكونة لهذه الوحدة العسكرية بما فيهم القائد العسكري الذي كان يقودهم، الجنرال ڭِيِّرْمُو بنتوس (GUILLERMO PINTOS). واعترف وزير الحرب أن حوالي ألف اسباني لقوا حتفهم، بينما لا يعترف بعض الصحفيين الاستعماريين، مثل فيكتور رويس ألبينيس (VICTOR RUIZ ALBENIZ) إلا بزهاء 300 خسارة في الأرواح في الصفوف الاسبانية.
فتحت هذه الهزيمة المدوية قوسا من الهدوء حتى بداية الخريف، واستفادت منه مدريد لإرسال تعزيزات عسكرية. ويمكن تقدير عدد الجنود الموجودين في مليلية في نهاية الصيف بحوالي 40000 جندي. وقررت الحكومة احتلال جبل الڭروڭو لإبعاد المغاربة عن ضواحي المدينة. واستأنفت العمليات يوم 21 أيلول/سبتمبر عندما هوجمت قبلية بني شڭار شمال مليلية، واحتل في اليوم التالي سوق الأحد. وانتقل الجيش بسرعة نحو الجنوب واحتل الناظور يوم 25 وسلوان يوم 27 مما أدى إلى تطويق الجبل الذي تم الاستيلاء عليه يوم 29 أيلول/سبتمبر. إن معالم الكيفية التي تصرف بها الجيش الاسباني، يقدمها لنا داعية من اكبر دعاة الاستعمار الاسباني شهرة حين يكتب أن «هذه العمليات تشكل درسا معبرا، وإن لم يُستفد منه إلا قليلا، لما يجب أن تكون عليه حرب المغرب: معاقبة المتمردين بضربهم في مصالحهم المادية بإحراق القرى وإتلاف أو مصادرة المحصول أو المطامير. والشرط الأول للتباحث في موضوع الخضوع هو تسليم العتاد الحربي واحتجاز رهائن للتأكيد من ذوايا السكان».
ونشرت أيضا إحدى الجرائد الاستعمارية في ذلك العهد، الافتتاحية التالية: «إن سياسة الترغيب والترهيب هي السياسة الوحيدة والمتيسرة وذات النتائج العملية، والتي يمكنها أن تجعل هؤلاء القوم الجهلاء يدركون أن أمن ديارهم، لا يمكنهم الحصول عليه إلا إذا انصاعوا لقيادة ممثلي اسبانيا المحترمين ووضعوا ثقة عمياء في اسبانيا. إن الجزاء والعقاب كقاعدة: العقاب في البداية وبعده الجزاء، يشكلان وسائل ناجعة لاجتذاب [السكان]».
لقد سجل بلوغ المرتفعات الواقعة جنوب جبل الڭروڭو في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر نهاية هذه الحملة. وإن خطط الاستمرار في الحملة ومشاريع الإنزال في الحسيمة قد تم التخلي عنها أمام المقاومة المغربية الضارية والاحتجاج الشعبي الاسباني والجهل المطلق لتلك الأراضي.
لا اغتسل ولا أمشط شعري ولا أضع رابطتي الزرقاء حتى ينتهي خطيبي من الاستيلاء على الڭروڭو والفتيات اللواتي كن ينشدن هذه الأغنية كن يشرقن فرحا إلا أن فرحهن لن يدوم طويلا.
إن الحس الوطني القوي لدى المغاربة، والاحتجاج الحازم للبروليتاريا الاسبانية وعدم أهلية جيشنا، ستشكل العراقيل الثلاث الرئيسية التي ستتعرض سبيل الاستعمار الاسباني ورغبته في التوسع سنة 1909. لقد كان بوسع الاستعمار الاسباني استخلاص درس مفيد، والانسحاب من هذه المغامرات التي لن تكون سوى مصدر للهزائم، ومع ذلك فضل التمادي محاولا فرض حماية على من هم في غنى عنها. وعلى هذا النحو فإن الفرامل الثلاثة المذكورة سابقا ستتضاعف إلى حد أن ديكتاتورية بريمُودي ريفيرَا (PRIMO de RIVERA)، الاستعماري البارز، ستفكر بجدية في احترام استقلال الشعب المغربي. إن درس أحداث 1909 كان هو أن ليس استعماريا من يردي بل من يستطيع ذلك. ولسحق الشعب المغربي لا بد من جهاز عسكري اقل تعفنا وفسادا وقصورا من الجهاز العسكري للجيش الاسباني آنذاك. وجريدة «أ.ب.س» التي لا يسوغ اتهامها بمعاداة السكرتارية، أكدت يوم 11 أكتوبر 1911 أنها لا تستطيع أن تفهم كيف أن الجنود غير النظامين «الموروس» (3)، الذين لا يتوفرون على تنظيم عصري والذين يفتقرون للعُدة الملائمة أو لقيادة كفئة، يمكنهم توقيف جيوش أوروبية يُفترض أنها حسنة التدريب، جيدة التنظيم ومجهزة بشكل مناسب. وكان القادة العسكريون يصطدمون بصعوبات لتفسير المأزق الذي آلت إليه الحرب، ولتفسير سبب كون جيوش الاحتلال مازالت دون مستوى المهمة القمعية الضرورية. إنها تساؤلات غير جديدة، كانت قد طُرحت ويطرحها وسيطرحها دائما المضطهِدون من كل نوع. وكان للاحتجاج الشعبي. من البعد والحدة والامتداد ما جعل كونت رومانونيس (ROMANONES) –وهو أحد الذين استثمروا كثيرا من المال في مناجم المغرب، والذي ينفي بإصرار أن تكون الأعمال العسكرية تتم لحماية مصالحه الشخصية- يعترف بأنه وقع تصديق هذه الإشاعة إلى حد أن فلاحي مزارعه الضخمة في كوادالخرا يعتقدون أن الجنود يموتون من أجل حماية أملاك الكونت. إنه من نوع المحاكاة الساخرة الحالية للحظة دعائية في التلفزة: «إن الجبل يحترق، إن شيئا لك يحترق يا سعادة الكونت»، ولكن بجدية.
إن النتيجة المنطقية قد استنتجتها الجريدة المذكورة «مراسلة اسبانيا»، الرجعية والملكية، حينما فضحت وأشارت بأسلوب مستقبلي ونبرة تنبؤية للأخطار التي يمكن أن يحملها للملكية غزو المغرب: «إذا كان البلد يُدرك أننا سنتمكن من حل مشكل ما باحتلال المغرب لتحَمَّلَ سياسة امبريالية، لكن بما أنه يعلم أننا ذاهبون إلى المغرب دون أن نعرف لماذا ومن أجل ماذا فإن البلد لا يتقبلها. لنفترض أن جنودنا خرجوا من مليلية واحتلوا 10 أو 20 أو 30 أو 100 كيلو متر وأن تلك المساحة محتلة الآن. لكن لماذا؟ إذن من أجل لا شيء. قطعا، من أجل لا شيء، إن لم يكن من أجل تبذير نحو مائة مليون نحن في أمس الحاجة إليها هنا بينما لن تصلح لشيء هناك. سيموت بعض الجنود، وسيُرقى آخرون، وسنبين مرة أخرى ارتباكنا، وللمرة المائة سنثير السخرية عندما نسمي إطلاق النار مناوشة، والمناوشة عملية حربية، ولقاء فصائل الاستكشاف قتالا، والقتال معركة مواجهة. سنبعث عددا من الجنرالات يفوق عدد العقداء، وعدد الضباط سيفوق عدد الجنود. إن الوعود أكثر من الحقائق، والمشاريع أكثر من الأفعال. وحصيلة كل هذا أننا سنظفر بشيء واحد: دماء الشغب وأموال المُكلف [بأداء الضريبة].
لِمَ الكذب إذا كانت الحقيقة هي هذه؟ لماذا نخدع أنفسنا بأوهام مثيرة للسخرية إذا كانت الأمور ما هي عليه وليست ما يُراد أن تكون؟ وعلى الحكومات التي تحكم، وعلى الملوك الذين يملكون أن لا ينسوا ذلك. إن الذهاب إلى المغرب سيكون أخطر ألف مرة من عدم الذهاب إليه. إن الذهاب إلى المغرب يعني الثورة. وعندما أقول ذلك أخدم الوطن والملك أفضل مما لو جعلت الملك والوطن يعتقدان أن الذهاب إلى المغرب يُناسب الأمة والملكية»



إحالات
(1)الكورطيس هو البرلمان الاسباني. (المترجم).
(2)يشير المؤلف إلى انتفاضة شعب مدريد في 2 أيار/مايو 1808 ضد الوجود الفرنسي في اسبانيا. تعتبر انتفاضة مدريد ضد جيوش نابليون بمثابة انطلاقة للحرب الاستقلالية في اسبانيا 1808-1814-. (المترجم).
(3)الموروس: MOROS، وهي تسمية قدحية للمغاربة.
هذا الموضوع منقول
Share:

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تابعنا عبر فيسبوك

BTemplates.com

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.